كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{كان حلا لبني إسرائيل}. كذبتم فيما تزعمون {إلا ما حرم إسرائيل على نفسه}. قلنا لحوم الإبل وألبأنها لأمر عارض.
{قل فأتوا بالتوراة فاتلوها} إذا أتيتم بالتوراة ستجدون فيها أن الله لم يحرم على إسرائيل شيئا لأن التوراة أنزلت في عهد موسى وإنما المحرم فيها ما حرمه الله على بني إسرائيل وفق ما نصه الله جل وعلا في كتابه.
قال الله بعدها: {قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين} وهذا منتهى التحدي. ولم يأتوا بالتوراة وإنما بهتوا وألجموا ولم يقبلوا أن يعرضوها على النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم قال الله جل وعلا وهذا قول فصل وكلام رب العالمين لا يقبل الرد: {فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك} من قال وتزعم كذبا بعد أن بينه الله {فأولئك هم الظالمون} وقطعا هم ظالمون لأنه قد ظلم نفسه وجاوز حده وافترى على الله من رد على الله جل وعلا كلامه وكذب قوله لذلك قال الله بعدها: {قل صدق الله}.
بيان عظيم لبشرية النبي صلى الله عليه وسلم:
وعندما يقول الله: {قل صدق الله} يأتي إنسان في هذه {قل صدق الله} وفي {قل يا أيها الكافرون} و{قل هو الله أحد} و{قل أعوذ برب الفلق} ويسأل: لماذا النبي صلى الله عليه وسلم قرأها: {قل صدق الله}؟ ألم يكن من المفترض أن يقرأها {صدق الله} و{يا أيها الكافرون} و{هو الله أحد} و{أعوذ برب الفلق} وهذا سؤال يرد بلا شك على الذهن.
والجواب عليه: أن هذا فيه بيان عظيم لبشرية النبي صلى الله عليه وسلم وأنه لا يأتي بشيء من عنده وإنما هو مجرد مبلغ، ولله المثل الأعلى. يأتي إنسان عظيم ويبعث بشخص عزيز عليه مقرب لديه إلى قوم ويقول لهم: يقول لكم مثلا الوالد تفضلوا عندنا على الغداء، أيهما أوقع على نفس المدعوين؟ لو قال هذا تفضلوا على الغداء يأتي في قلوب الناس شك الدعوة هل هي من الولد أو من الوالد؟ ولكن عندما يقول لهم: يقول والدي تفضلوا على الغداء، فإنه سوف يعرف المدعوين أن الابن ليس عليه إلا البلاغ وأن الدعوة فعلا من الوالد.
فعندما يقول الله جل وعلا {قل صدق الله} وينقلها النبي صلى الله عليه وسلم في هذا بيان أنه بشر لا علاقة له بالأمر والنهي والأمر والنهي والبلاغ من عند الله وإنما هو عليه الصلاة والسلام ليس أكثر من مبلغ بشيرا ونذيرا لقوم يؤمنون.
{قل صدق الله} صدق بلا شك بكل ما يقول لكنها هنا تبنى على خصوص وعموم، تبنى على الخصوص {قل صدق الله} في قوله تعالى: {كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل} وتبنى على العموم في أن الله صادق بكل ما يقول.
ولذلك عبدالله بن مسعود رضي الله عنه الصحابي المكنى بأبي عبدالرحمن إذا حدث غالبا يقول: أخبرني الصادق المصدوق، أو يقول: سمعت الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، كما في الصحيحين من حديث الخلق النطفة والعلقة. فقوله صادق أي: فيما يقول. ومصدوق أي: فيما يقال له.
وهو عليه الصلاة والسلام لما بعث علي وجمع من الصحابة رضي الله عنهم إلى روضة خاخ عندما يدركوا الخطاب الذي بعثه حاطب بن بلتعه مع المرأة لتبعث به إلى كفار مكة، بعث النبي صلى الله عليه وسلم عليا والمقداد وجمعا من الصحابة قال: «ائتوا روضة خاخ تجدون فيها امرأة معها كتاب من حاطب إلى قريش فائتوني بالكتاب»، لما ذهب علي رضي الله عنه وقبض على المرأة أنكرته، فقال علي: والله ما كذبنا ولا كذبنا بمعنى: نحن ما افترينا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال هذا الكلام وهو صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يكذب علينا ويقول لنا إن معك كتاب وليس معك كتاب. وهذا هو معنى ما كذبنا ولا كذبنا.
{قل صدق الله} فلما ظهر الصدق لم يبقى إلا الإتباع، قال الله جل وعلا: {قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا} والخطاب لليهود على وجه الخصوص وعلى كل من يقرأ القرآن ويصله البلاغ على وجه العموم.
{قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين} ومن الذي ما كان من المشركين؟ عائد على إبراهيم عليه السلام ولماذا جاء به قلنا في سياق سابق أن الله جل وعلا نزه إبراهيم عليه السلام عن كل إثم لأن جميع الأمم ادعت أن إبراهيم منها وهي تنتسب إليه ولذلك قال الله جل وعلا فيما مر معنا: {ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين} آل عمران (67).
يتحقق من هذا كله أمور بيناها فيما سبق ونربطها فيما لحق وهي:
أن هذه السورة سورة آل عمران لها علاقة قوية باليهود فأغلبها رد على مزاعم اليهود فكل ما زعمه اليهود يفنده الله جل وعلا ويبين لنبيه صلى الله عليه وسلم مكمن الصواب فيه.
تحرر من ذلك كله أن بني إسرائيل وبني إسماعيل وبني العيس كلهم يفيئون إلى رجل واحد هو إبراهيم. وما زال الناس بذلك ينتسبون ويلتقون في سام وحام ويافث أبناء نوح عليه السلام ثم يلتقون في نوح ثم في الإثنى عشر الذين كانوا مع نوح ثم يلتقون في أبيهم آدم عليه السلام. ولهذا عنصر التفضيل القبلي مرفوض وإنما كما قال الله جل وعلا: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} سورة الحجرات (13)، كلكم لآدم وآدم من تراب.
ثم قال الله عز وجل: {إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين (96) فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين}.
أول بيت وضع للعبادة:
{إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة} وضع لماذا؟ وضع للعبادة وإلا البيوت قديمة. وليس الكلام عنها سواء كانت قديمة أو حديثة، وإنما يتكلم الله جل وعلا عن أول بيت وضع للعبادة. هذه الآيتان فيها كلام طويل نحاول قدر الإمكان أن نجمله:
أن المسجد الحرام أول مسجد وضع في الأرض للعبادة قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث أبي ذر رضي الله عنه لما سأله: يا رسول الله أي بيت وضع في الأرض أول؟ قال: «المسجد الحرام»، قال ثم أي؟ قال: «المسجد الأقصى»، أو بيت المقدس، قال: كم بينهما؟ قال: «أربعون سنة». من الذي قال بينهما أربعون سنة؟ الرسول صلى الله عليه وسلم. والمشهور أن الذي بنى بيت المقدس هو سليمان بن داود عليهما السلام والمشهور الذي بنى البيت الحرام هو إبراهيم عليه السلام. وإذا أخذنا بهذا المشهور فلن يتفق الحديث مع الآية، لأن بين إبراهيم وسليمان ثلاثة قرون تقريبا والنبي صلى الله عليه وسلم قال: «أربعون سنة».
إذا فالصحيح إن شاء الله: أن آدم عليه السلام هو أول من وضع الكعبة وبيت المقدس. ولا يمكن أن ينطبق الحديث إلا على آدم، ويصبح الكلام أن الله جل وعلا أمر آدم أو ملائكة قبله أن يبنوا الكعبة ثم أمره بعد أربعين سنة أن يبنى بيت المقدس، ثم بين الله لإبراهيم مكان الكعبة ولذلك قال الله: {وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت} سورة الحج (26)، أي: مكان الكعبة فأعاد بنائها، ثم بين لداود وسليمان عليهما السلام مكان بيت المقدس فأعادا بنيانه.
المسجد الحرام والمسجد الأقصى والمسجد النبوي هي الثلاثة التي تشد إليها الرحال- وأنا أتكلم هنا بلا ترتيب لأنني قلت أن ما يتعلق هنا من الفوائد كثير.
المسجد الأقصى وقصة مسجد قبة الصخرة:
المسجد الأقصى فيه صور تنقل كثيرة، هناك مسجد اسمه قبة الصخرة وهناك مسجد اسمه المسجد الأقصى، فالمسجد الأقصى هو الذي ليس عليه قبة وهو الذي صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم وربط فيه دابته البراق، أما قبة الصخرة فالصخرة هذه كانت تعظمها اليهود وتصلي إليها في غابر الأزمان، ولما جاء بختنصر من بابل من العراق وأهلك اليهود أعانه النصارى، ولذلك فالعداوة بين اليهود والنصارى عداوة قديمة.
الصخرة كانت تعظمها اليهود في حين أن النصارى يعظمون كنيسة القيامة وما حولها بيت المقدس عموما. إذا فبيت المقدس متفق عليه بين اليهود والمسلمين والنصارى على أنه أرض مباركة وكل منهم له فيه غاية. وبيت المقدس كانت فيه الصخرة لما فتح عمر رضي الله عنه بيت المقدس وخرج من المدينة صلحا وسلمت إليه مفاتيح بيت المقدس كانت النصارى مسيطرة على المدينة وكان اليهود أذلة، كانت هذه الصخرة يجعلها النصارى نكاية في اليهود مجمع للنفايات، وكان مع عمر رضي الله عنه كعب الأحبار- يهودي أسلم في المدينة- فسأل عمر رضي الله عنه كعب الأحبار فقال: أين تراني أصلي؟ فقال: أرى أن تصلي خلف الصخرة، حتى يصبح عمر رضي الله عنه مستقبل الكعبة وأيضا مستقبل الصخرة، فقال له عمر رضي الله عنه: ما فارقتك يهوديتك تريدني أن أستقبل الصخرة حتى يرتفع شأن اليهود، فتقدم وجعل الصخرة خلفه. وهو يعلم عمر رضي الله عنه أن الصخرة معظمة وأخذ يمسح النفايات عنها ولكنه لم يرد أن يصلي فيجعلها في قبلته فتفتخر بها اليهود. فالصخرة في بيت المقدس وبيت المقدس كله مبارك بلا شك لكن عمر رضي الله عنه لم يرد أن يجعل للصخرة خصوصية تزيد على خصوصية بيت المقدس فتقدم وجعل الصخرة خلفه.
السياسة لا تدخل في شيء إلا أفسدته:
بقيت الصخرة على هذه الحالة حتى كان عبدالملك بن مروان الخليفة الأموي وكان الذي ينازعه الخلافة خصمه عبدالله بن الزبير رضي الله عنه في مكة، والعرب كانت تحج إلى مكة فيلتقون بابن الزبير رضي الله عنه.
والسياسة لا تدخل في شيء إلا أفسدته. ولذلك العاقل لا يأخذ آراء السياسيين حتى لو كان أتقى خلق الله. فلا تكن إمعة كل من يحمل راية سياسية تعتقد أنها راية دينية، أصبح الناس يأتون ابن الزبير رضي الله عنه خصيم عبد الملك بن مروان ثم يعودون راجعين إلى الشام يقولون لعبدالملك بن مروان: أن الناس وأمراء القبائل يحجون ويقابلهم ابن الزبير. فأمر عبدالملك بن مروان أن يبنى على الصخرة قبة تكسى مثلما تكسى الكعبة وزينها لعل الناس أن يأتوها لسبب سياسي واحد هو أن ينصرفوا عن ابن الزبير رضي الله عنه.
ففهم الأمور في سياقها يريحك كثيرا عندما تستمع إلى أي خطاب سياسي. السياسة فيها شيء اسمه مراحل فالورقة هذه تنفع اليوم ما تنفع غدا، فلما انتهت القضية هذه بقتل عبد الله ابن الزبير رضي الله عنه على يد الحجاج بن يوسف واحتل العراق، عبد الملك لم يبالي بالصخرة ولم يكسها ولم يهدمها وإنما تركها على حالها الذي هي عليه اليوم، وجاء بعده ملوك لم يفهموا لماذا بناها وأخذوا يزينوها. هذه قصة بيت الصخرة، في قول الله تعالى: {إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين} هذه الفائدة الأولى.
الفائدة الثانية: قال تعالى: {للذي ببكة} والاسم الآخر مكة.
فهل هما بمعنى واحد أم المعنى يختلف؟
القول الأول: قال بعض العلماء إن الباء والميم في اللغة كثيرة الإبدال بعضها عن بعض، فيقولون هذا طين لازب وطين لازم بالميم والمعنى واحد، على هذا القول تصبح مكة وبكة معناهما واحد ويصبح الباء والميم بينهما بدل.
القول الثاني: أن بكة المقصود بها المسجد الحرام نفسه، ومكة يقصد بها الحرم كله، هذا قول وكلا القولين لا يمكن أن يكون تنافي بينهما ولا يتعلق به كثير اختلاف.
{للذي ببكة مباركا} ولاشك أنه مبارك بدليل أمور لا تعد منها:
1- أن الله جل وعلا يضاعف فيه الحسنات.
2- أن من حج البيت ولم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه.
3- أن الله شرع فيه الطواف ولا يشرع إلا فيه. وغيرها كثير.
والله نعته بأنه مبارك {للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين}.
{فيه} أي: المسجد الحرام {آيات بينات} لم يذكر الله الآيات وإنما ذكر واحدة فقال: {مقام إبراهيم} إذا يصبح تقدير الكلام فيه آيات بينات كثيرة منها مقام إبراهيم. هذا أرجح ما قيل في إعرابها أنه مبتدأ لخبر محذوف مقدم تقديره منها مقام إبراهيم، وقيل غير ذلك لكن هذا الذي نراه والله اعلم.
من هذه الآيات الموجودة في الحرم المكي مقام إبراهيم.
والسؤال ما مقام إبراهيم؟
إبراهيم عليه السلام قلنا هو الذي رفع جدار الكعبة بناه وساعده ابنه إسماعيل عليه السلام. لما ارتفع البنيان وهذا مشهور قدم إسماعيل حجرا لأبيه ليرتقي عليه، حتى يبقي الله هذه المزية لإبراهيم عليه الصلاة والسلام أصبح الصخر رطبا فآثار قدمي إبراهيم عليه الصلاة والسلام بقيت في الصخرة ظاهرة بينة على مر الزمان. حتى إن قبيلة في العرب تسمى بني مدلج معروفة بالقفاية- يعرفون الأقدام والأرجل- وكانوا يطوفون بالبيت ويرون أقدام إبراهيم عليه السلام، وذات يوم عندما كان النبي صلى الله عليه وسلم صغير في حجر جده عبدالمطلب خرج يلعب رآه أحدهم فحمله إلى جده وقال له: من هذا منك، قال هذا ابني، فقال: حافظ عليه فإنه أقرب شبها إلى قدمي من في المقام، يقصدون إبراهيم عليه السلام. ولما عرج به صلى الله عليه وسلم إلى سدرة المنتهى ورأى إبراهيم عليه السلام قال: «ما رأيت أحدا أشبه بصاحبكم منه ولا منه بصاحبكم».
المقصود أن مقام إبراهيم حجر وطئ عليه إبراهيم لما أراد أن يبني الكعبة بعد أن ارتفع بنائها بقيت آثار قدميه إلى يومنا هذا، وقد شرع الله الصلاة عند هذا المقام قال تعالى: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} سورة البقرة (125).
{فيه آيات بينات مقام إبراهيم} ثم قال تعالى: {ومن دخله كان آمنا} دخله عائدة على المسجد أو على مكة عموما.
{ومن دخله كان آمنا} ما المقصود من الآية؟
واختلف العلماء في معنى قول الله تعالى: {ومن دخله كان آمنا} مكمن الخلاف أنه قد يدخل الإنسان الحرم ويؤذي فقد يأتي الحرم مجرم يخرج خنجر أو مسدس ويستطيع أن يقتل الناس في الحرم وهذا مر عبر التاريخ كله، فالتوفيق ما بين الآية وما بين الواقع مشكلة لأن الله تعالى قال: {ومن دخله كان آمنا} لذلك اختلفت كلمة العلماء في المعنى:
القول الأول: إن هذا خبر عن الماضي بمعنى أن أهل الجاهلية قديما كانوا يدخلون الحرم فلا يؤذي بعضهم بعضا لحرمة البيت التي وضعها الله في قلوبهم وهذا معروف وإن كان ليس بصحيح على إطلاقه لأنه قد وقع في الجاهلية أذى وسط الحرم والنبي صلى الله عليه وسلم أوذي وسط الحرم.
القول الثاني: قول ابن عباس واختاره الأمام ابن جرير الطبري إمام المفسرين وغيره أن الإنسان إذا جنى جناية خارج الحرم ثم دخل استجار بالحرم فإنه لا يقام عليه الحد ولا يقبض عليه ولكن يضيق عليه في المعاملة لا يبتاع معه ولا يشترى ولا يطعم حتى يضطر إلى الخروج فيقام عليه الحد. هذا قول وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله.